سورة الرعد - تفسير تفسير القشيري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


المؤمن يسجد لله طوعاً، وإذا نزل به ضر ألجأه إلى أَنْ يتواضع ويسجد، وذلك معنى سجوده كرهاً- وهذا قول أهل التفسير. والكافر يسجد طائعاً مختاراً، ولكن لمَّا كان سجودُه لطلبِ كَشْفِ الضُّرِّ قال تعالى: {إنه يسجد كرهاً} على مقتضى هذا كلُّ مَنْ يَسْجُدُ لابتغاءِ عِوَضٍ أو لكشفِ محنة.
ويقال السجود على قسمين: ساجدٌ بِنَفْسِه وساجدٌ بقلبه؛ فسجودُ النَّفْسِ معهود، وسجودُ القلب من حيث الوجود.. وفَرْقٌ بين من يكون بنفسه، وواجد بقلبه.
ويقال الكلُّ يسجدون لله؛ إِمَّا من حيث الأفعال بالاختيار، أو من حيث الأحوال بنعت الافتقار والاستبشار: سجودٌ من حيث الدلالة على الوحدانية؛ فكلُّ جزءٍ من عين أو أثر فَعَلَى الوحدانية شاهدٌ، وعلى هذا المعنى للَّهِ ساجدٌ. وسجود من حيث الشهادة على قدرة الصانع واستحقاقه لصفات الجلال.


قوله جلّ ذكره: {قُل مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لآ يَمْلِكُونَ لأِنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً}.
سَلْهُمْ- يا محمد- مَنْ موجِدُ السموات والأرض ومُقَدِّرُها، ومُخْتَرعُ ما يحدث فيها ومدبِّرها؟ فإِنْ أَسْكَتهُمْ عن الجواب ما استكَنَّ في قلوبهم مِنَ الجهلِ فقُلْ الله منشيها ومجريها.
ثم قال: {أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}: يعني الأصنام، وهي جمادات لا تملك لنفسها نَفْعَاً ولاَ ضَرَّاً، ويلتحق في المعنى بها كلُّ مَنْ هو موسومٌ برقم الحدوث، فَمَنْ علَّقَ قلبَه بالحدثان ساوَى- مِنْ وجهٍ- مَنْ عَبَدَ الأصنام، قال تعالى: {وَمَأ يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
قوله جلّ ذكره: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَمْ هَلْ تََسْتَوِى الظُّلُمَاتُ والنُّورُ}.
الأعمى مَنْ على بصيرته غشاوة وحجبة، والبصيرُ مَنْ كَحَّلَ الحقُّ بصيرة سِرِّه بنور التوحيد.. لا يستويان!
ثم هل تستوي ظلماتُ الشِّرك وأنوارُ التوحيد؟ ومن جملة النور الخروجُ إلى ضياء شهود التقدير.
قوله جلّ ذكره: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَئٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ}.
أي لو كان له شريك لَوَجَبَ أن يكون له نِدٌّ مُضاهٍ وفي جميع الأحكام له موازٍ ولم يجدِ حينئذٍ التمييزُ بين فِعْلَيْهِما.
وكذلك لو كان له ندٌّ.. فإنَّ إثباتَهما شيئين اثنين يوجِب اشتراكَهما في استحقاق كل وصف، وأن يكون أحدهما كصاحبه أيضاً مستحقاً له، وهذا يؤدي إلى ألا يُعْرَفَ المَحَلُّ وذلك محال.
قوله جلّ ذكره: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَئٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ}.
{وَكُلُّ شَئٍ} تدخل فيه المخلوقات بصفاتها وأفعالها، والمخاطِبُ لا يدخل في الخطاب.
{وَهُوَ الوَاحِدُ}: الذي لا خَلَفَ عنه ولا بَدَل، الواحد الذي في فضله منزه عن فضل كل أحد، فهو الكافي لكلِّ أحد، ويستعين به كل أحد.
و{الْقَهَّارُ}: الذي لا يجري بخلاف حُكْمِه- في مُلْكِه- نَفَسٌ.


هذه الآية تشتمل على أمثالٍ ضربها أللَّهُ لتشبيه القرآنِِ المُنَزَّلِ بالماءِ المُنَزَّلِ من السماء، وشبَّه القلوب بالأودية، وشبَّه وساوسَ الشيطان وهواجسَ النَّفْس بالزَّبِّدِ الذي يعلو الماء، وشبَّه الخُلُق بالجواهر الصافية من الخَبَثِ كالذهب والفضة والنحاس وغيرها. وشبَّه الباطلَ بِخَبَثِ هذه الجواهر. وكما أن الأودية مختلفة في صغرها وكبرها وأن بقدرها تحتمل الماء في القلة والكثرة- كذلك القلوبُ تختلف في الاحتمال على حسب الضعف والقوة. وكما أَن السيلَ إذا حَصَلَ في الوادي يُطَهِّرُ الوادي فكذلك القرآن إذا حصل حِفْظُه في القلوب نَفَى الوساوسَ والهوى في الوادي عنها، وكما أَنَّ الماءَ قد يصحبه ما يكدره، يخلص بعضه مما يشوبه- فكذلك الإيمان وفَهُمْ القرآن في القلوب المؤمنين حين تخلص من نَزَعْاتِ الشيطان ومن الخواطر الرَّدِيَّة، فالقلوب بين صافٍ وكَدِرٍ.
وكما أنَّ الجواهَر التي تتخذ منها الأواني إذا أذيبت خَلَصتْ من الخَبَثِ كذلك الحق يتميز من الباطل، ويبقى الحقُّ ويضمحل الباطل.
ويقال إن الأنوار إذا تلألأت في القلوب نَفَت آثار الكفلة، ونور اليقين ينفي ظلمة الشك، والعلم ينفي تهمة الجهل، ونور المعرفة ينفي أثر النكرة، ونور المشاهدة ينفي آثار البشرية، وأنوار الجمع تنفي آثار التفرقة. وعند أنوار الحقائق تتلاشى آثار الحظوظ، وأنوار طلوعِ الشمس من حيث العرفان تنفي سَدَفَةَ الليل من حيث حسبان أثر الأغيار.
ثم الجواهر التي تتخذ منها الأواني مختلفة فَمِنْ إناءٍ يتخذ من الذهب وآخر من الرصاص، إلى غيره، كذلك القلوب تختلف، وفي الخبر: «إن لله تعالى أوانيَ وهي القلوب» فزاهد قاصدٌ ومحب واجِدٌ، وعابدٌ خائفٌ ومُوحِّدٌ عارفٌ، ومتعبِّدٌ متعفِّفٌ ومتهجِّدٌ متصوف، وأنشدوا:
ألوانُها شتَّى الفنونِ وإنما *** تُسْقى بماءٍ واحدٍ من مَنْهَلِ

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8